قالت
حليمة بائعة اللبن لآمنة - وقد جاءت كعادتها قبل شروق الشمس - وهي
تكيل لها لبنا بقرش :
"سمعت الخبر ؟ الزين مو داير يعرس
" .
وكاد الوعاء يسقط من يدي آمنة . واستغلت حليمة انشغالها
بالنبأ فغشتها اللبن .
كان فناء المدرسة " الوسطى " ساكنا خاويا وقت
الضحى ، فقد أوى التلاميذ إلى فصولهم ، وبدأ من بعيد صبي يهرول لاهث النفس ، وقد
وضع طرف ردائه تحت إبطه حتى وقف أمام باب " السنة الثانية " وكانت حصة
الناظر .
" يا ولد يا حمار . إيه أخرك ؟
ولمع المكر في عيني الطريفي :
" يا فندي سمعت الخبر ؟ "
" خبر بتاع إيه يا ولد يا بهيم ؟ "
ولم يزعزع غضب الناظر من رباطة جأش الصبي ، فقال وهو يكتم
ضحكته :
" الزين ماش يعقدو له بعد باكر "
وسقط حنك الناظر من الدهشة ونجا الطريفي .
وفي السوق أقبل عبد الصمد على دكان شيخ علي ، محتقن الوجه ،
ليس ثمة أدنى شك في أنه غضبان . كان له على شيخ علي ، تاجر العماري ، دين ماطله
عليه شهرا كاملا - وقد قرر أن يخلصه منه ذلك اليوم ، بالخير أو بالشر
.
" علي . أنت يعني قايل أنا ما بخلص قروشي منك ، ولا
فكرك شنو ؟ "
" حاج عبد الصمد . كدى قول بسم الله واقعد نجيب لك
فنجان جبنة "
" يا زول جبنتك طايره عليك ، قوم افتح الخزنة دي ادني
قروشي ، ولا كمان أن بقيت ما بي ضمه كمان فهمني "
وبصق شيخ علي على " السفة " من
فمه
" كدى اقعد اتحدثك بالخبر دا "
" يا زول أنا مو فاضي لك ولا فاضي لي خبيراتك ، باقي
أنا عارفك مستهبل داير تطرتش على قروشي " . " يمين قروشك حاضرات ، كدى
اقعد انحكيلك حكاية عرس الزين"
" قلت عرس منو ؟ "
" عرس الزين "
وجلس عبد الصمد ووضع يديه على رأسه وظل صامتا برهة ، وشيخ
علي ينظر إليه مغتبطا بالأثر الذي أحدثه . وأخيرا وجد عبد الصمد ما يقول :
" أي لا إله إلا الله محمداً رسول الله . عليك الرسول
يا شيخ علي دار حديث شنودا ؟ "
ولم يخلص عبد الصمد دينه في ذلك اليوم
ولما انتصف النهار كان الخبر على فم كل أحد . وكان الزين على
البئر في وسط البلد يملأ أوعية النساء بالماء ويضاحكهن كعادته فتجمهر حوله الأطفال
. وأخذوا ينشدون " الزين عرس .. الزين عرس " فكان يرميهم
بالحجارة ، ويجر ثوب فتاة مرة ومرة يهمز امرأة في وسطها ، ومرة يقرس أخرى في فخذها
والأطفال يضحكون ، والنساء يتصارخون ويضحكن وتعلو فوق ضحكهم جميعا الضحكة التي
أصبحت جزءا من البلد منذ أن ولد الزين .
يولد الأطفال فيستقبلون الحياة بالصريخ ، هذا هو المعروف
ولكن يروى أن الزين ، والعهدة على أمه والنساء اللائي حضرون ولادتها ، أول ما مس
الأرض انفجر ضاحكا وظل هكذا طول حياته . كبر وليس في فمه غير سنّين . واحدة في
فكه الأعلى والأخرى في فكه الأسفل . وأمه تقول أن فمه كان مليئا
بأسنان بيضاء كاللؤلؤ . ولما كان في السادسة ذهبت به يوما لزيارة قريبات لها ،
فمرا عند مغيب الشمس على خرابة يشاع أنها مسكونة ، وفجأة تسمر الزين مكانه وأخذ
يرتجف كمن به حمى ، ثم صرخ . وبعدها لزم الفراش أياما ، ولما قام من مرضه كانت
أسنانه جميعا قد سقطت ، واحدة في فكه الأعلى ، وأخرى في فكه الأسفل .
كان وجه الزين مستطيلا ناتئ عظام الوجنتين والفكين وتحت
العينين ، جبهته بارزة مستديرة ، عيناه صغيرتان محمرتان دائما ، محجراهما غائران
مثل كهفين في وجهه ، ولم يكن على وجهه شعر إطلاقا . لم تكن له حواجب ولا
أجفان ، وقد بلغ مبلغ الرجال وليست له لحية أو شارب .
تحت هذا الوجه رقبة طويلة ، ( من بين الألقاب التي أطلقها
الصبيان على الزين " الزرافة " ) والرقبة تقف على كتفين قويتين
تنهدلان على بقية الجسم في شكل مثلث . الذراعان طويلتان كذراعي القرد . اليدان
يظتان عليهما أصابع مسحوبة تنتهي بأظافر مستطيلة حادة ( فالزين لا يقلم
أظافره أبدا ) .
الصدر مجوف ، والظهر محدودب قليلا ، والساقان رقيقتان
طويلتان كساقي الكركي ، أما القدمان فقد كانتا مفرطحتين عليهما آثار ندوب قديمة (
فالزين لا يحب لبس الأحذية ) وهو يذكر قصة كل جرح من هذه الجروح .
مثلا هذا الشلخ الطويل على القدم اليمنى : الممتد من الرسغ على ظاهر القدم إلى
الفرجة بين الأصبع الأولى والثانية . يحكي الزين قصته فيقول : " الجرح دا يا
جماعة ليه حكاية " ويستفزه محجوب قائلا : " حكاية شنو يا
عوير ؟ يا مشيت تسرق ضربوك بي غصن شوك " . ويقع هذا موقعا حسنا في نفس الزين
. فيستلقي على قفاه ضاحكا . ثم يضرب الأرض بيديه ويرفع رجليه في الهواء ويظل يضحك
بطريقته الفذة . ذلك الضحك الغريب الذي يشبه نهيق الحمار . وكان ضحكه
قد أعدى الحاضرين جميعا ، فتحول المجلس إلى قهقهة مدوية . ويتمالك
الزين نفسه . ويمسح بكم ثوبه الدمع الذي سال على وجهه من الضحك ، ويقول : أي .. أي
.. مشيت أسرق " . ويستفزه محجوب من جديد : " شن مشيت تسرق
آمر مد ؟ يمكن قت داير لك شيتن تاكله " . ويمسح الزين وجهه بيديه ويعود للضحك
من جديد . ويرجح الحاضرون أن الزين دخل بيتا ليسرق طعاما . إذ أنه كان
معروفا بالنهم ، إذا أكل لا يشبع . وفي الأعراس حين تأتي " سُفر "
الطعام ويتحلق الناس حلقات يأكلون ، يتحاشى كل فريق أن يجلس الزين معهم ، إذ أنه
حينئذ يأتي في لمح البصر على كل ما في الآنية ، ولا يترك أكلا لآكل . وقال له عبد
الحفيظ : " مالك طاري العملة العملتها وقت عرس سعيد ؟ " وأجاب الزين وهو
يقهقه : " أي طاري .. عليك أمان الله الأكل وكت أكلته عدمته الحبة إن كان
موجني إسماعيل مقطوع الطاري لحقني " . كان الزين قد أوكل بنقل الطعام في عرس
سعيد فكان يمشي جيئة وذهابا بين " الديوان " حيث اجتمع الرجال و"
التٌكل " في داخل اليت حيث تقوم النسوة بالطهي . وفي الطريق من التٌكل إلى
الديوان كان الزين يتمهل قليلا ويأكل ما طاب له الأكل من الوعاء الذي يحمله . وحين
يصل به إلى الناس يكاد يكون خاليا وفعل ذلك ثلاث مرات حتى لفت انتباه أحمد إسماعيل
، فتابعه حتى وقف في نصف الطريق ، ورفع الغطاء عن صينية مملوءة بالدجاج المحمر .
وما أن أمسك الزين بدجاجة منها وقربها إلى فمه ، حتى هجم عليه أحمد إسماعيل وأشبعه
ضربا . وسأله محجوب مرة أخرى " ما تقول لنا يا فقر مشيت تسرق شنو ؟ "
ولما لاحظ الزين أن الناس حوله قد أرهفوا آذانهم ، اعتدل في قعدته ووضع ذراعية بين
ركبتيه وقال " الصيف الفات وقت حس المريق ... كنت متأخر في الساقية ، الدنيا
يا زول كان القمر يلجلج ، رميت توبي فوق كتفي وجيت سادر للبيوت ، أقول لك وكت وصلت
الرملة العند طرف الحلة ، اسمع لك حس زغاريت ... " وقاطعه محجوب : " أي
صدق : دا كان عرس بكري " . واستمر الزين : " أقول لك يا زول قت أمشي
أشوف الحكاية شنو . أتاري ناس فريق الطلحة سارّين العرس . مشيت لقيت القيامة قايمة
. الزيطة والزمبليطة والدلاليك والزغاريت أول شي مشيت أهبش إن كان ألقى لي شيتن
آكله .. ".
وانفجر المجلس بالضحك . فقد كان ما
قدروا .. " الحريم في التكل أدّني لحيمات أكلتها . وأدّني شيتن مر شربته
".
وقال محجوب : " يبقي دا عرقي آ مسجم
" .
وقال الزين : " لا مو عرقي قال لك أنا
العرقي ما بعرفوا .. أقول لك آزول الشي الشربته دا طار لي في راسي .
يعدين
مرتحت من التكل . دخلت بيت القالك كمشة حريم والأرباح والدلكة والمحلب ما
يدّيك
الدرب ... عليّ بالطلاق آزول الريحة سكرتني " .
وضحك عبد الحفيظ : " وين المره
البطلقها مع الرجال ؟ " لم يعبأ الزين بهذا . ولكنه استمر يحكي في القصة وقد
أخذته
النشوة " وفي الوسط القالك العروس . بنيتن سميحة مكبرته ومدخنة وملبسنها فركة
ترمصيص
". وهنا صمت الزين وأدار عينيه الصغرتين في وجوه الحاضرين . وفمه مفتوح وقد
برز
سناه . ولم يقو محجوب على الصبر ، فأخذ يستحثه أن يكمل القصة : " بعدين شن
سويت ؟
" بعدين نطيب على العروس ".
وحين قال هذا قفز من مكانه كالضفدعة . وضج
الحاضرون وانفجر الزين في الضحك واستلقى على بطنه وراح يضرب برجليه في الهواء . ثم
انقلب على ظهره وقال وهو ما يزال يشهق بالضحك : " مسكت الشافعة عضيتها في
خشمها ". وتشهد محجوب واستغفر . " أقول لك يا زول الحريم طقن الكواريك
والبيت فار والشافعة العروس بقت تصرخ . وما القا لك إلا زول ضرب كراعي بي سكين .
أقول لك قت يا مين مسكنها فرد جريه لا من وصلت أهلي ". وفجأة استوى الزين
جالسا وظهر على وجهه بالغ . وقال يوجه حديثه لمحجوب : " اسمع يا زول . أنت
داير تعرس لي بتك علوية ولا عندك كلام ؟ " فأجابه محجوب بجد وحزم كأنه يعني
ما يقول : " البت أنا مضيتها ليك . دحين قدام الناس الحاضرين ديل بعد تحش
قمحك وتلم تمرك وتبيعه وتحضر القروش نجي نعقد لك " . هذا الوعد أرضى الزين .
وصمت برهة وقد قطب حاجبيه وزم شفتيه وكأنه قد أخذ يفكر في مستقبل حياته مع علوية
ومسؤولية القيام بأعباء زوجة وأطفال . وقال : " خلاص . اشهدوا يا خوانا
. الرجل دا مرقت منه كلمة . باكر بعد باكر ما يجي يفكر " وقال الحاضرون جميعا
. أحمد إسماعيل ، والطاهر الرواسي ، وعبد الحفيظ . وحمد ود الريس . وسعيد صاحب
الدكان ،قالوا إنهم شهود على الوعد الذي قطعه محجوب وإن الزواج سيتم بإذن الله